“تعلم الصمت كما تتعلم الكلام، فإنّ للسكوت مواضع كما للكلام مواضع”
7/27/20251 دقيقة قراءة


ما أعجبَ الزمان وأسرعَ تقلُّبَ أحواله! كأنّ الناس قد اجتمعوا اليوم على أمرٍ غريب، لا يُشبه ما عليه أهل المروءات من قبل؛ فقد رأينا قومًا لا يُحبّون الإنصات، ولا يصغون إلا لقولهم، كأنّ آذانهم خُلِقَت لهم وحدهم، وكأنّ الحديث لا يستحق الوقوف عنده إلا إذا خرج من أفواههم.
لقد أصبحت المجالس ميادين صخب، لا مواضع علمٍ ولا مهابط حِلم، الكلّ فيها يريد أن يتكلم، ولا أحد يبتغي الفهم أو التأمُّل. تسمع الرجل يقاطع قبل أن يُكمِل السائلُ فكرته، ويَردّ قبل أن يَفقه المقصود، وكأنّ غايته أن يُجيب، لا أن يَفهم.
وقد قيل في الأثر: “إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب”، بل قال عبد الله بن المبارك: “تعلم الصمت كما تتعلم الكلام، فإنّ للسكوت مواضع كما للكلام مواضع.”
وإن من دلائل العقل والخلق، أن يُصغي المرء لغيره، لا على سبيل الردّ، ولكن على سبيل الإدراك. فكم من كلمةٍ أُسيءَ فهمها لأنّ المستمع لم يكن ينوي السماع، بل كان يعدّ الجواب في صدره قبل تمام الحديث.
وهل الفوضى في المجالس إلا من فقد الإنصات، وهل الجفاء بين الناس إلا من قِلّة الأدب في الإصغاء؟ بل إنّ الصمت في حضرة المتكلم، هو مقامُ توقيرٍ، وموضعُ أدب، وركنٌ من أركان الفهم.
فيا ابن آدم، إذا جلستَ في مجلس، فاجعل أذنك سابقةً لسانك، وبصيرتك قبل بيانك، ولا تكن ممن يستمع ليقطع، أو يُنصت ليرد، فإنّ ذلك خُلقُ السفهاء لا الحكماء.
إنّ الأدب كلّه يُختصر في خصالٍ ثلاث: أن تُحسن الاستماع، وأن تتأنّى في الجواب، وأن تحترم من تحدّثك، كائنًا من كان.